فصل: (فرع: اشتباه الإناء الطاهر بالنجس ومعه آخر بيقين)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: سؤر غير مأكول اللحم]

سؤر الحمار طاهر يجوز أن يتوضأ منه، وعرقه طاهر.
وقال أبو حنيفة: (سؤر الحمار مشكوك فيه، لا يجوز أن يتوضأ به عند وجود غيره، وعرقه نجس).
دليلنا على سؤره: أنه ماء يتوضأ به عند عدم غيره، فيتوضأ به عند وجود غيره، كسائر المياه.
وعلى عرقه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب حمار معروريًا وصلى».
والظاهر: أنه أصابه من عرقه، ولأنه لا يجب غسل الإناء من ولوغه سبعًا، فكان عرقه طاهرًا، كالشاة.
ولا يكره سؤر الفرس.
وقال أبو حنيفة: (يكره).
دليلنا: أنه ذو سهم في الغنيمة، فلم يكره سؤره، كالآدمي.

.[مسألة: الإخبار عن نجاسة الماء]

إذا ورد على ماء قليل، فأخبره رجل بنجاسته.. فذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: أنه لا يلزمه قبول خبره حتى يبين بأي شيء نجس، لجواز أن يكون رأى سبعًا ولغ فيه، فاعتقد أنه نجس بذلك.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا علم بأن المخبر ممن يرى أن الماء بلغ قلتين لم يحمل نجسًا.. لزمه قبول خبره مطلقًا)؛ لأن من يقول هذا.. لا يرى أن سؤر السباع نجس.
فإن بين النجاسة.. قبل منه ولم يجتهد، كما يقبل ممن يخبره بالقبلة عن علم، ويقبل فيه قول الرجل والمرأة والحر والعبد، كما تقبل منهم أخبار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقبل فيه قول الأعمى؛ لأن له طريقًا إلى العلم به بالمحس والخبرة، ولا يقبل فيه قول كافر ولا فاسق؛ لأن أخبارهما غير مقبولة.
وهل يقبل فيه قول الصبي المراهق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله؛ لأنه من أهل الإخبار.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه ليس من أهل الشهادة.

.[فرع: الإخبار بولوغ الكلب]

وإن كان معه إناءان، فأخبره رجل أن الكلب ولغ في أحدهما بعينه.. قبل قوله ولم يجتهد، كما نقول في القبلة.
وإن أخبره رجل: أن الكلب ولغ في هذا دون ذاك، وقال آخر: بل ولغ في ذاك دون هذا، فإن لم يعينا الوقت.. حكم بنجاستهما؛ لجواز أن يكون قد ولغ فيهما في وقتين، وإن عينا وقتًا واحدًا.. فهما كالبينتين إذا تعارضتا، وفيهما قولان:
أحدهما: يسقطان، والثاني يستعملان.
فإن قلنا: إنهما يسقطان.. توضأ بما شاء منهما؛ لأنه لم تثبت نجاسة واحد منهما. وقال الصيدلاني: يجتهد فيهما، وليس بشيء.
وإن قلنا: إنهما يستعملان.. ففي استعمال البينتين ثلاثة أقوال:
أحدهما: القسمة. والثاني: الوقف. والثالث: القرعة.
والإناءان لا يمكن القسمة فيهما؛ لأنه يؤدي إلى استعمال النجس منهما، فسقط هذا القول فيهما.
وأما القولان الآخران: فاختلف أصحابنا فيهما:
فقال الشيخ أبو إسحاق: يريقهما، أو يصب أحدهما في الآخر، ثم يتيمم.
وقال ابن الصباغ: يوقفان، فيدعهما، ويتيمم، ويصلي ويعيد.
وقال صاحب " المذهب ": هل يقرع بينهما، على قول القرعة؟ فيه وجهان. ولا فرق بين أن يستوي المخبرون في الإناءين، أو يكون في أحد الإناءين واحد، وفي الآخر أكثر، فالكل واحد.
وإن قال رجل: إن هذا الكلب ولغ في هذا الإناء في وقت بعينه، وقال آخر: هذا الكلب كان في ذلك الوقت في مكان آخر.. ففيه وجهان، حكاهما الشاشي:
أحدهما: أنه طاهر؛ لتعارض الخبرين.
والثاني: أنه نجس؛ لأن الكلاب تشتبه.
وإن قال: أدخل الكلب رأسه في الإناء، ولم أعلم بولوغه.. لم يحكم بنجاسته؛ لأن الأصل عدم الولوغ.
وإن قال: أدخل رأسه، وأخرجه وعلى فيه رطوبة، ولم أعلم بولوغه.. فهل يحكم بنجاسته؟.. فيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم بنجاسته؛ لأن الأصل عدم الولوغ.
والثاني: يحكم بنجاسته؛ لأن الظاهر: أنه ولغ فيه لخروج الرطوبة التي على فيه.

.[مسألة: اشتباه الطاهر بالنجس]

وإن اشتبه عليه الماء الطاهر بالماء النجس، أو اشتبه الثوب الطاهر بالثوب النجس.. جاز له التحري في ذلك، ولا فرق بين أن يكون عدد الطاهر أكثر، أو النجس أكثر، أو كانوا سواء.
وقال المزني، وأبو ثور: (لا يتحرى في الماء ولا في الثياب).
وقال ابن الماجشون، وابن أبي سلمة: يتوضأ بأحدهما ويصلي، ثم يتوضأ بالثاني ويصلي، وكذلك في الثياب يصلي بكل واحد منهما.
وقال أبو حنيفة: (يتحرى في الثياب) كما قلنا.
وأما المياه: فإن كان عدد الطاهر أكثر، تحرى فيهما، وإن كانا سواء، أو عدد النجس أكثر.. لم يتحر.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وهذا من الاعتبار، ولأنه سبب من أسباب الصلاة يمكنه التوصل إليه بالاستدلال، فجاز له التحري فيه عند الاشتباه، كالقبلة.
فقولنا: (سبب من أسباب الصلاة) بمعنى: شرط من شروط الصلاة، وفيه احتراز ممن شك في صلاته، هل صلى ثلاثًا أم أربعا؟ فإنه لا يتحرى.
وقولنا: (يمكنه التوصل إليه بالاستدلال) احتراز من الأعمى في الاجتهاد في القبلة، أو في الإناءين، في أحد القولين.
ولأن كل ماء دخله التحري إذا كان عدد المباح أكثر.. دخله التحري وإن كان عدد المحرم أكثر، كالثياب.
إذا ثبت هذا: فيكفيه التحري عند البغداديين من أصحابنا: هو أن ينظر إلى الإناءين، ويميز الطاهر منهما من النجس بتغير اللون، أو الرائحة، أو الاضطراب، أو الترشش حوله، أو بأن يرى أثر الكلب إلى أحدهما أقرب، فإذا عرف ذلك.. غلب على ظنه نجاسة الإناء بهذه الأمارات، وطهارة الآخر لعدمها.
فأما ذوق الماء: فلا يجوز؛ لأنه ربما كان نجسًا، فلا يحل له ذوقه قبل أن يغلب على ظنه طهارته.
وأما الخراسانيون: فقالوا: هل يحتاج المجتهد إلى نوع دليل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحتاج، كما يحتاج المجتهد في الأحكام.
والثاني: لا يحتاج، بل يكفيه أن يبني أمره على الطهارة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ظن المؤمن لا يخطئ» وهذا ليس بشيء؛ لأن الظن لا يكون إلا عن أمارة.

.[فرع: اشتباه نجاسة أحد الإناءين]

وإن وقعت نجاسة في أحد الإناءين واشتبها عليه، فانقلب أحدهما قبل الاجتهاد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يتحرى في الباقي منهما؛ لأن جواز الاجتهاد قد ثبت فيه، فلم يسقط بالانقلاب.
والثاني: لا يتحرى فيه، ولكن يتيمم ويصلي؛ لأن الاجتهاد يكون بين أمرين.
والثالث: أنه يتوضأ بالثاني من غير اجتهاد؛ لأن الأصل بقاؤه على الطهارة.

.[فرع: الاجتهاد في الإناءين المتضادين]

وإن اجتهد في الإناءين، فلم يغلب على ظنه طهارة أحدهما، فإن أراقهما، أو صب أحدهما في الآخر، ثم تيمم، وصلى.. صح، ولا إعادة عليه، بخلاف ما لو صب الماء من غير عذر، وتيمم.. فإن عليه الإعادة في أحد الوجهين؛ لأن هناك لا عذر له، وهاهنا له عذر.
وإن صب أحدهما، وترك الثاني.. فهل له أن يتوضأ بالثاني؟ فيه وجهان – حكاهما في "الفروع" - قال: وهكذا الوجهان لو أصابت النجاسة موضعًا من ثوبه وخفي عليه موضعها، فغسل موضعًا منه:
أحدهما: وهو قول أبي العباس -: يجوز أن يتوضأ بالثاني، ويصلي بالثوب؛ لأنه إذا أراق أحد الإناءين، وغسل موضعًا من الثوب.. جاز أن يكون الذي أراقه هو النجس، والذي غسله هو الذي أصابته النجاسة، فكان الباقي كالماء والثوب المشكوك في نجاستهما.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز له أن يتوضأ بالثاني، ولا يصلي بالثوب؛ لأنه كان ممنوعًا من استعمالهما للنجاسة، وصار يشك في زوالها، والأصل بقاؤها.
وإن لم يرقهما ولا أحدهما، قال ابن الصباغ: فإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما.. فإن الشافعي قال: (لا يتيمم بل يخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك ويصلي)، ولم يذكر الإعادة.
وقال القاضي أبو الطيب: يعيد؛ لأن الماء الذي توضأ به، لم تثبت طهارته عنده بأمارة.
وقال الشيخ أبو حامد: يتيمم، ويصلي، ويعيد. قال في "الإفصاح": إن خاف خروج الوقت قبل فراغه من التحري.. تأخى وصلى على غالب ظنه، وأعاد؛ لأنه توضأ به على تخمين.
وإن تيمم وصلى قبل إراقة الإناءين، أو صب أحدهما في الآخر.. فهل عليه إعادة ما صلى بالتيمم؟.. فيه وجهان، حكاهما في "الفروع":
أحدهما: وهو الأصح -: أنه يعيد؛ لأنه صلى بالتيمم ومعه ماء طاهر بيقين.
والثاني: لا يلزمه أن يعيد؛ لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله في الشرع، فهو كما لو لم يكن معه ماء.

.[فرع: استحباب إراقة أحد الإناءين]

وإذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الإناءين.. فالمستحب له: أن يريق الآخر؛ حتى لا يتغير اجتهاده فيما بعد.
فإن لم يرقه وبقيت من الأول بقية، ثم حضرت صلاة أخرى وهو محدث.. قال ابن الصباغ، والمحاملي: فعليه أن يعيد الاجتهاد ثانيًا، كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد، ثم حضرت صلاة أخرى، ولعلهما أرادا على أحد الوجهين.
فإن أداه اجتهاده إلى طهارة الأول.. فلا كلام، فيستحب له أن يريق الماء النجس لكي لا يشتبه عليه ثانيًا.
وإن تيقن أن الذي توضأ به هو الطاهر.. لم يستحب له أن يريق النجس؛ لأنه ربما احتاج إليه لعطشه.
وإن تيقن أن الذي استعمله هو النجس.. غسل ما أصابه من الماء الأول في ثيابه وبدنه، وأعاد ما صلى بالطهارة الأولى؛ لأنه تعين له يقين الخطأ، فهو كالحاكم إذا أخطأ النص.
وإن أداه اجتهاده إلى طهارة الثاني، ونجاسة الذي توضأ به.. فقد روى المزني عن الشافعي: (أنه لا يتوضأ بالثاني، ولكن يتيمم، ويصلي، ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم) واختلف أصحابنا فيها:
فقال أبو العباس: هذا الذي نقله المزني لا يعرف للشافعي، والذي يجيء على قياس قول الشافعي: أنه يتوضأ بالثاني، كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم حضرت صلاة أخرى، وأداه اجتهاده إلى أن القبلة في غير تلك الجهة.. فإنه يصلي الصلاة الثانية إليها، ثم كذلك الثالثة والرابعة.
وقال سائر أصحابنا: بل المذهب ما رواه المزني، وقد رواه حرملة أيضًا عن الشافعي؛ لأنا إذا أمرناه أن يتوضأ بالثاني.. لم يخل: إما أن نأمره أن يغسل ما أصابه من الماء الأول، أو لا نأمره.
فإن لم نأمره بذلك.. أمرناه أن يصلي وعليه نجاسة بيقين.
وإن أمرناه أن يغسل ما أصابه من الماء الأول.. نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد، وهذا لا يجوز ويخالف القبلة، فإنا إذا أمرناه أن يصلي إلى الجهة الثانية.. لم يتيقن الخطأ في الثانية، فلا يؤدي إلى نقض الاجتهاد في الأولى بالاجتهاد.
فإن قلنا بقول أبي العباس.. توضأ بالثاني، وصلى، ولا إعادة عليه.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يغسل ما أصابه من الأول في غير مواضع الوضوء؛ لأن مواضع الوضوء يطهرها الماء عن الحدث والنجس، ولا يكون ذلك نقض الاجتهاد بالاجتهاد؛ لأنا لسنا نحكم ببطلان طهارته الأولى وصلاته فيها، وإنما أمرناه بغسل ما غلب على ظنه نجاسته، كما أمرناه باجتناب بقية الأول، وحكمنا بنجاسته، ولا يقال: هو نقض الاجتهاد بالاجتهاد.
وإن قلنا بالمنصوص.. فإنه يتيمم ويصلي، وهل يلزمه إعادة ما صلى بالتيمم؟ ينظر فيه:
فإن كان قد بقي معه من الأول بقية يلزمه استعمالها في الطهارة أن لو كان طاهرًا.. لزمته الإعادة على المنصوص.
ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه الإعادة؛ لأن ما معه من الماء ممنوع من استعماله بالشرع، وهذا ليس بشيء؛ لأنه صلى بالتيمم ومعه ماء طاهر بيقين.
وإن لم يبق معه من الأول شيء، أو بقي منه بقية لا يلزمه استعمالها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا إعادة عليه؛ لأنه ليس معه ماء طاهر بيقين، بل الشرع قد منعه من استعماله.
والثاني: يلزمه الإعادة؛ لأنه صلى بالتيمم، وعنده ماء يعتقد طهارته.

.[فرع: اشتباه الإناء الطاهر بالنجس ومعه آخر بيقين]

وإن اشتبه عليه ماءان: طاهر ونجس، ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته.. فهل يجوز له الاجتهاد في المشتبهين؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يجوز له؛ لأنه يمكنه إسقاط الفرض بيقين، بأن يتوضأ بما يتيقن طهارته، فلم يجز الرجوع إلى غلبة الظن، كما لا يجوز له الاجتهاد في القبلة إذا أمكنه الرجوع إلى اليقين فيها.
والثاني - وهو قو عامة أصحابنا، وهو الأصح -: أنه يجوز له الاجتهاد؛ لأنه ليس فيه أكثر من العدول عن الماء المتيقن طهارته إلى الماء المحكوم بطهارته في الظاهر، وذلك غير ممتنع في الطهارة، كما يجوز له أن يتوضأ من الماء القليل بحضرة البحر، ويفارق القبلة، فإنه إذا تيقن كونها في جهة.. لم يجز أن تكون في جهة أخرى، وهاهنا يجوز أن يكون الماءان طاهرين.
ولهذه المسألة نظائر:
منها: إذا اشتبه عليه ماء طاهر مطهر، وماء مستعمل.. هل يجوز له أن يتحرى فيهما، أو يلزمه أن يتوضأ بهما؟ على وجهين:
فإذا أمرناه: أن يتوضأ بهما، أو اختار فعل ذلك، واحتاج إلى الاستنجاء.. فإنه يستنجي بأحدهما، ثم يستنجي بالثاني، ثم يتوضأ بكل واحد منهما على الانفراد.
ومثلها: إذا اشتبه عليه ماءان، في أحدهما نجاسة، وكان يعلم أنه إذا خلط أحدهما بالآخر بلغ قلتين، وأمكنه خلطهما.. فهل يجوز له التحري فيهما، أو لا يجوز بل يخلطهما؟ على وجهين:
فإن كان يعلم أنهما لا يبلغان قلتين، فخلطهما بعد دخول الوقت، وإمكان التحري، وتيمم وصلى.. قال الصيمري: لزمته الإعادة؛ لأنه فرط.
ويحتمل عندي وجه آخر: أنه لا إعادة عليه، مأخوذ من أحد الوجهين ممن أراق الماء بعد دخول الوقت، وتيمم وصلى.
ومثلها: إذا اشتبه عليه ثوبان: طاهر ونجس ومعه من الماء ما يمكنه أن يغسل به أحدهما.. فهل يجوز له التحري فيهما، أو لا يجوز بل يغسل أحدهما؟ فيه وجهان، وعلة الوجهين ما تقدم في الأولى.
وإن اشتبه عليه ماء طهور، وماء ورد، أو ماء شجر.. لم يتحر فيهما وجهًا واحدًا؛ لأن ماء الورد، وماء الشجر لا أصل لهما في التطهير فيرد إليه بالاجتهاد، ولكن يتوضأ بكل واحد منهما، ليسقط الفرض بيقين، هذا قول أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان، كالماء المطلق والمستعمل.
وإن اشتبه عليه ماء، وبول انقطعت رائحته.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يجوز له التحري فيهما وجهًا واحدًا؛ لأن البول لا أصل له في التطهير فيرد إليه بالاجتهاد.
والخراسانيون قالوا: هي على وجهين.
أحدهما: هذا.
والثاني: يتحرى فيهما، كما يتحرى في الماء الطاهر، والماء النجس.

.[فرع: التحري في الإناءين وقت العطش]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم" [1/9] (إذا كان مع الرجل في السفر إناءان: أحدهما طاهر، والآخر نجس، فاشتبها عليه وكان يخاف العطش فيما بعد إن توضأ بالماء.. فإنه يتحرى فيهما، ويتوضأ بالذي يغلب على ظنه منهما، ويمسك الآخر، حتى إن احتاج إليه؛ لعطشه.. شربه).
قال الشيخ أبو حامد: وهذا صحيح؛ لأن ترك التوضؤ بالماء والعدول إلى التيمم؛ لخوف العطش فيما بعد.. لا يجوز، وإنما يجوز ذلك إذا خاف العطش في الحال، وأما شربه للماء النجس إذا خاف على نفسه.. فيجوز، كما يجوز أكل الميتة.

.[فرع: اشتباه الأطعمة]

وإن اشتبه عليه طعام طاهر، وطعام نجس.. جاز له التحري فيهما؛ لأن أصلهما على الإباحة، فإذا طرأت النجاسة على أحدهما، واشتبها عليه.. جاز له التحري فيهما، كما لو اشتبه عليه ماء طاهر، وماء نجس.
وإن اشتبه عليه طعام طاهر، وطعام نجس، ومعه طعام ثالث من ذلك الجنس، يتيقن طهارته.. فهل يجوز له التحري في المشتبهين؟
قال الشيخ أبو حامد: فيه وجهان، كما قلنا في الماء.
وإن اشتبه عليه شاة ميتة بشاة مذبوحة.. فهو كما لو اشتبه عليه ماء وبول: فالبغداديون من أصحابنا قالوا: لا يتحرى فيهما وجهًا واحدًا.
والخراسانيون قالوا: فيه وجهان، وتعليلهما ما تقدم.

.[فرع: الاشتباه على الأعمى]

وإن اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس على أعمى.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يتحرى كما لا يجوز له الاجتهاد في القبلة.
فعلى هذا: يقلد بصيرًا.
والثاني: يتحرى، كما يجتهد في وقت الصلاة.
فإذا قلنا بهذا، فلم يكن له دلالة على الطاهر.. فهل له أن يقلد بصيرًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنا قد قلنا: إنه من أهل الاجتهاد، ومن كان من أهل الاجتهاد في شيء.. لم يقلد فيه غيره، كالحاكم في الأحكام، والبصير في القبلة.
والثاني: يقلد غيره؛ لأن الأمارة على الطاهر والنجس تتعلق بالبصر وبغيره، فإذا غلب على ظنه طهارة أحدهما.. كان كالاجتهاد في الوقت، وإذا لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما.. كان كالقبلة.
فإذا قلنا: ليس له أن يقلد بصيرًا، ولم تكن له دلالة، أو قلنا: له أن يقلد البصير، ولم يكن للبصير دلالة.. فإن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (لا يتيمم، ولكن يخمن، ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه من ذلك ويصلي) ولم يذكر الإعادة، فقال القاضي أبو الطيب: عندي أن الإعادة واجبة عليه؛ لأنه لم يثبت عنده طهارة الماء بأمارة.
وقال الشيخ أبو حامد: يتيمم ويصلي ويعيد؛ لأنه لم يثبت عنده طهارة الماء بعلم، ولا بغلبة ظن.
قال ابن الصباغ: وما قاله القاضي أشبه بأصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وما قاله الشيخ أبو حامد أقيس.

.[فرع: الاشتباه على رجلين]

إذا كان مع رجلين إناءان فيهما ماء: أحدهما طاهر، والآخر نجس، واشتبها عليهما، فأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى طهارة أحدهما.. توضأ كل واحد منهما بما أداه إليه اجتهاده، ولم يجز لأحدهما أن يأتم بالآخر.
وقال أبو ثور: (يجوز؛ لأن كل واحد منهما صلاته صحيحة) وهذا خطأ؛ لأن كل واحد منهما يعتقد أن إمامه توضأ بالنجس، فصلاته باطلة، ولا يجوز له أن يعلق صلاته بصلاة يعتقدها باطلة.
وإن كان هناك ثلاثة أوان، وثلاثة رجال، فإن كان فيها طاهر ونجسان، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء، وتوضأ به.. لم يأتم أحدهم بالآخر على المذهب، وعليه التفريع. وإن كان فيها نجس وطاهران، وأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به.. فهل يجوز لبعضهم أن يأتم بالبعض؟ فيه وجهان:
أحدهما: حكاه المسعودي [في "الإبانة": ق \ 10] عن ابن القاص -: أنه لا يجوز؛ لأن كل واحد منهم يقول: يحتمل أن إمامي استعمل النجس.
والثاني - وهو قول ابن الحداد وهو المشهور -: أنه يجوز؛ لأنه قد بقي هناك طاهر غير الذي استعمله هو، فيجوز أن يكون إمامه هو الذي استعمل الطاهر، وأن النجس استعمله غيرهما.
فعلى هذا: إذا تقدم أحدهم فصلى بهم الصبح، وتقدم آخر وصلى بهم الظهر، وتقدم الثالث وصلى بهم العصر.. فإن صلاة الصبح صحيحة في حق جميعهم.
وأما صلاة الظهر: فصحيحة في حق إمامها وإمام الصبح، باطلة في حق إمام العصر؛ لأن كل إمام يقول: أنا توضأت بالطاهر، وإمام الظهر وإمام العصر لا يخطئان إما الصبح في الاجتهاد، وكذلك إمام الصبح لا يخطئ إمام الظهر في الاجتهاد، وأما إمام العصر فإنه يخطئ إمام الظهر في الاجتهاد؛ لأنه يقول: توضأت بطاهر، وتوضأ إمام الصبح بطاهر، فتعين النجس في حقه لإمام الظهر.
وأما صلاة العصر: فباطلة في حق إمام الصبح وإمام الظهر؛ لما ذكرناه من التعليل، وهل تصح في حق إمامها؟ فيها وجهان:
أحدهما: وهو المشهور -: أنها صحيحة له؛ لأنه يقول: توضأت بطاهر وأحدهما بالطاهر الثاني.
والثاني - حكاه في الفروع -: أنها باطلة في حقه؛ لأنه لما صلى خلف إمام الصبح، وإمام الظهر.. جرى ذلك منه مجرى الشهادة لهما بالطاهرين، فتعين النجس في حقه.
وإن كان هناك أربعة أوان، وأربعة رجال، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به، وتقدم كل واحد منهم، وأم الباقين في صلاة، فإن كان فيها طاهر وثلاثة أنجاس.. لم تصح صلاة واحد منهم خلف واحد منهم على المذهب، خلافًا لأبي ثور.
وإن كان فيها طاهران ونجسان.. لم تصح صلاة أحدهم خلف صاحبه، على قول ابن القاص. وعلى المشهور: تصح صلاة الصبح في حق الجميع منهم، وتصح صلاة الظهر في حق إمامها وإمام الصبح، وتبطل في حق إمام العصر وإمام المغرب. وأما صلاة العصر والمغرب: فيبطلان في حق المؤتمين بهما، وهل تصح صلاة كل واحدة منهما لإمامهما؟
المشهور: أنها تصح له، وعلى ما حكاه في "الفروع" لا تصح له.
وإن كان فيها نجس وثلاثة طواهر.. لم تصح صلاة المؤتمين فيهن على قول ابن القاص وعلى المشهور: تصح صلاة الصبح والظهر في حق جميعهم وتصح صلاة العصر في حق إمامها وإمام الصبح وإمام الظهر، وتبطل في حق إمام المغرب، وأما صلاة المغرب: فتبطل في حق إمام الصبح والظهر والعصر، وهل تصح في حق إمامها؟
المشهور: أنها تصح وعلى ما حكاه في "الفروع": لا تصح له.
وإن كان هناك خمسة أوان، وخمسة رجال، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء فتوضأ به، وتقدم كل واحد منهم وأم الباقين في صلاة، فإن كان فيها طاهر واحد، وأربعة أنجاس.. لم تصح صلاة المأمومين هاهنا فيما ائتموا به على المذهب، خلافًا لأبي ثور.
وإن كان فيها طاهران، وثلاثة أنجاس، وقلنا بقول ابن الحداد.. صحت صلاة الصبح للجميع، وصحت الظهر لإمامها وإمام الصبح، وتبطل في حق الباقين.
وأما صلاة العصر والمغرب والعشاء: فتبطل كل واحدة في حق المؤتمين بها، وهل تبطل كل واحدة في حق إمامها؟
المشهور: أنها تصح، وعلى ما حكاه في "الفروع": لا تصح.
وإن كان فيها ثلاثة طواهر، ونجسان.. صحت صلاة الصبح والظهر للجميع.
وتصح صلاة العصر لإمامها وإمام الصبح وإمام الظهر، وتبطل في حق إمام المغرب والعشاء، وأما صلاة المغرب والعشاء: فتبطل كل واحدة في حق المؤتمين بها، وهل تبطل كل واحدة في حق إمامها؟
المشهور: أنها لا تبطل. وعلى ما حكاه في "الفروع": تبطل.
وإن كان فيها أربعة طواهر، ونجس.. صحت صلاة الصبح والظهر والعصر في حق الجميع. وصحت صلاة المغرب في حق الجميع إلا في حق إمام العشاء، فإنها باطلة في حقه. وأما صلاة العشاء فإنها باطلة في حق المؤتمين بها. وهل تبطل في حق إمامها؟
المشهور: أنها لا تبطل. وعلى ما حكاه في "الفروع": تبطل.